يكون الإيمان بالقضاء والقدر عونًا للمسلم على أمور دينه ودنياه؛ لأنه يؤمن بأن قدرة الله عز وجل فوق كل قدرة، وأن الله عز وجل إذا أراد شيئًا فلن يحول دونه شيء.
هل الدعاء يرد القدر؟
الدعاء من الأسباب التي يحصل بها المدعو، وهو في الواقع لا يرد القضاء، بل له جهتان. فمثلاً، هذا المريض قد يدعو الله تعالى بالشفاء فيشفى، فهنا لولا هذا الدعاء لبقي مريضًا، لكن بالدعاء شُفي. إلا أننا نقول إن الله سبحانه وتعالى قد قضى بأن هذا المرض يشفى منه المريض بواسطة الدعاء، فهذا هو المكتوب.
فصار الدعاء يرد القضاء ظاهريًا، حيث إن الإنسان يظن أنه لولا الدعاء لبقى المرض، ولكنه في الحقيقة لا يرد القضاء؛ لأن الأصل أن الدعاء مكتوب، وأن الشفاء سيكون بهذا الدعاء. هذا هو القدر الأصلي الذي كتب في الأزل. وهكذا كل شيء مقرون بسبب، فإن هذا السبب يجعله الله تعالى سببًا يحصل به الشيء، وقد كتب ذلك في الأزل من قبل أن يحدث هذا.
هل للدعاء تأثير في تغيير ما كتب للإنسان بعد خلقه ؟
لا شك أن للدعاء تأثيرًا في تغيير ما كتب، لكن هذا التغيير كتب أيضًا بسبب الدعاء. فلا تظن أنك إذا دعوت الله فإنك تدعو بشيء غير مكتوب، بل الدعاء مكتوب، وما يحصل به مكتوب. ولهذا نجد القارئ يقرأ على المريض فيشفى.
وقصة السَّرِيَّة التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلوا ضيوفًا على قوم ولكنهم لا يضيفوهم، وقُدِّر أن لدغت حية سيدهم، فطلبوا من يقرأ عليه، فاشترط الصحابة أجرًا على ذلك، فأعطوهم قطيعًا من الغنم. فذهب أحدهم فقرأ عليه الفاتحة، فقام الذي لدغ كانما نشط من عقال (أي كانه بعير فُكَّ عقاله). فقد أثَّرت القراءة في شفاء المريض. فلدعاء تأثير، لكنه ليس تغييرًا للقدر، بل هو مكتوب بسببه المكتوب. وكل شيء عند الله بقدر. وكذلك جميع الأسباب لها تأثير في مسبباتها بإذن الله، فالأسباب مكتوبة والمسببات مكتوبة.
كيف يعاقب الله على المعاصي وقد قدرها على الإنسان ؟
إقدام الإنسان على العمل السيء ثم يعاقب عليه، هذه ليست مشكلة؛ لأن إقدام الإنسان على العمل السيء إقدام باختياره. فلم يكن أحدٌ يشهر سيفًا أمام وجهه ويقول: "اعمل هذا المنكر"، بل هو عمله باختياره. والله تعالى يقول: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]. فالشاكر والكفور كلهم قد هداه الله السبيل وبينه له ووضحه له، ولكن من الناس من يختار هذا الطريق، ومن الناس من لا يختار.
وتوضيح ذلك أولا بالإلزام وثانيا بالبيان :
1.الإلزام
الأعمال الدنيوية والأعمال الأخروية كلها سواء، ويلزمك أن تجعلهما سواء. ومن المعلوم أنه لو عُرض عليك من أعمال الدنيا مشروعان: أحدهما ترى لنفسك الخير فيه، والثاني ترى لنفسك الشر فيه، من المعلوم أنك تختار المشروع الأول الذي هو مشروع الخير، ولا يمكن أبدًا بأي حال من الأحوال أن تختار المشروع الثاني وهو مشروع الشر، ثم تقول: "إن القدر الزمني به".
إذ يلزمك في طريق الآخرة ما التزمته في طريق الدنيا. ونقول: جعل الله أمامك من أعمال الآخرة مشروعين: مشروعًا للشر وهي الأعمال المخالفة للشرع، ومشروعًا للخير وهي الأعمال المطابقة للشرع.
فإذا كنت في أعمال الدنيا تختار المشروع الخيري، فلماذا لا تختار المشروع الخير في أعمال الآخرة؟
إنه يلزمك في عمل الآخرة أن تختار المشروع الخيري، كما أنك التزمت في عمل الدنيا أن تسلك المشروع الخيري.
2.البيان
كلنا يجهل ماذا قدَّر الله له. قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]. فالإنسان حينما يقدم على العمل، يقدم عليه باختيار منه، ليس عن علم بأن الله قدَّره عليه وأرغمه عليه.
ولهذا قال بعض العلماء: "إن القدر سر مكتوم"، ونحن جميعًا لا نعلم أن الله قدَّر كذا حتى يقع ذلك العمل. فنحن إذن حينما نقدم على عمل، لا نقدم عليه على أساس أنه كُتب لنا أو علينا، وإنما نقدم عليه باختيار.
وحينما يقع، نعلم أن الله قدَّره علينا. ولذلك لا يقع احتجاج الإنسان بالقدر إلا بعد وقوع العمل، ولكنه لا حجة له بذلك.
الله الذي يجري كل شيء في الكون بتقديره وتدبيره، بعلمه ومشيئته ومقتضى حكمته.
وعلى هذا الأساس كان إيمان السلف بالقدر من الصحابة ومن تبعهم بإحسان. فليس الإيمان بالقدر إيمانًا بالبخت والمصادفات والعشوائية في الكون، كهؤلاء الذين ينقلون إلى العربية التغييرات اليونانية والغربية عن القدر، فتراهم يقولون: "القدر الأعمى"، و"القدر الأحمق"، و"القدر الغاشم"، و"عبث الأقدار"، ونحوها. وهي ألفاظ وتعبيرات يبرأ منها الإسلام والمسلمون.
إنما هو إيمان بإحاطة علم الله، وعموم مشيئته، وشمول قدرته، وربوبيته لكل ما في الكون. وأن كل ما يحدث في الوجود يتم بناء على ترتيب سابق، وتدبير قديم، وتقدير عزيز عليم.